من هدي القرآن للتي هي أقوم

  • أ.د. عاصم القريوتي
  • 2459
نشر عبر الشبكات الإجتماعية

من هدي القرآن للتي هي أقوم

ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: هديه إلى أن التقدم لا ينافي التمسك بالدين. فما حيله أعداء الدين لضعاف العقول ممن ينتمي إلى الإسلام: من أن التقدم لا يمكن إلا بالانسلاخ من دين الإسلام باطل لا أَساس له.

والقرآن الكريم يدعو إلَى التقدم في جميع الميادين التي لها أهمية في دنيا أو دين، ولكن ذلك التقدم في حدود الدين، والتحلي بآدابه الكريمة، وتعاليمه السماوية. قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ} الآية.

وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً…}[34/11،10].

فقوله: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ}،يدل على الاستعداد لمكافحة العدو.

وقوله {وَاعْمَلُوا صَالِحاً} يدل على أن ذلك الاستعداد لمكافحة العدو في حدود الدين الحنيف.

وداود من أنبياء «سورة الأنعام» المذكورين فيها في قوله تعالى: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ}[6/84].

وقد قال تعالى مخاطباً لنبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم بعد أن ذكرهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}[6/90].

       وقد ثبت في صحيح البخاري عن مجاهد أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما من أين أخذت السجدة «في ص» ؟

فقال: أوما تقرأ {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ}الى قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}[6/84-90]، فسجدها داود، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فدل ذلك على أنا مخاطبون بما تضمنته الآية مما أمر به داود. فعلينا أن نستعد لكفاح العدو مع التمسك بديننا، وانظر قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}[8/60]، فهو أمر جازم بإعداد كل ما في الاستطاعة من قوة ولو بلغت القوة من التطور ما بلغت. فهو أمر جازم بمسايرة التطور في الأمور الدنيوية، وعدم الجمود على الحالات الأول إذا طرأ تطور جديد. ولكن كل ذلك مع التمسك بالدين.

ومن أوضح الأدلة في ذلك قوله تعالى: {إِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ…}الآية[4/102].

فصلاة الخوف المذكورة في هذه الآية الكريمة تدل على لزوم الجمع بين مكافحة العدو، وبين القيام بما شرعه الله جلَّ وعلا من دينه.

فأمره تعالى في هذه الآية بإقامة الصلاة في وقت التحام الكفاح المسلح يدل على ذلك دلالة في غاية الوضوح، وقد قال تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[8/45]، فأمره في هذه الآية الكريمة بذكر الله كثيراً عند التحام القتال يدل على ذلك أيضاً دلالة واضحة.

 فالكفار خيلوا لضعاف العقول أن النسبة بين التقدم والتمسك بالدين، والسمت الحسن والأخلاق الكريمة ـ تباين مقابلة كتباين النقيضين كالعدم والوجود، والنفي والإثبات. أو الضدين كالسواد والبياض، والحركة والسكون. أو المتضائفين كالأبوة والبنوة، والفوق والتحت. أو العدم والملكة كالبصر والعمى.

فإن الوجود والعدم لا يجتمعان في شيء واحد في وقت واحد من جهة واحدة، وكذلك الحركة والسكون مثلاً. وكذلك الأبوة والبنوة. فكل ذات ثبتت لها الأبوة لذات استحالت عليها النبوة لها، بحيث يكون شخص أباً وابناً لشخص واحد. كاستحالة اجتماع السواد والبياض في نقطة بسيطة، أو الحركة والسكون في جرم. وكذلك البصر والعمى لا يجتمعان.

فخيلوا لهم أن التقدم والتمسك بالدين متباينان تباين مقابلة، بحيث يستحيل اجتماعهما. فكان من نتائج ذلك انحلالهم من الدين رغبة في التقدم. فخسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.

والتحقيق: أن النسبة بين التقدم والتمسك بالدين بالنظر إلى العقل وحده، وقطع النظر عن نصوص الكتاب والسنة، إنما هي تباين المخالفة، وضابط المتباينين تباين المخالفة أن تكون حقيقة كل منهما في حد ذاتها تباين حقيقة الآخر، ولكنهما يمكن اجتماعهما عقلاً في ذات أخرى. كالبياض والبرودة، والكلام والقعود، والسواد والحلاوة.

فحقيقة البياض في حد ذاتها تباين حقيقة البرودة، ولكن البياض والبرودة يمكن اجتماعها في ذات واحدة كالثلج. وكذلك الكلام والقعود فإن حقيقة الكلام تباين حقيقة القعود، مع إمكان أن يكون الشخص الواحد قاعداً متكلماً في وقت واحد.

وهكذا. فالنسبة بين التمسك بالدِّين والتقدم بالنظر إلى حكم العقل من هذا القبيل، فكما أن الجرم الأبيض يجوز عقلاً أن يكون بارداً كالثلج، والإنسان القاعد يجوز عقلاً أن يكون متكلماً، فكذلك المتمسك بالدين يجوز عقلاً أن يكون متقدماً.

 إذ لا مانع في حكم العقل من كون المحافظ على امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، مشتغلاً في جميع الميادين التقدمية كما لا يخفَى. وكما عرفه التاريخ للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.

أما بالنظر إلى نصوص الكتاب والسنة كقوله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ}[22/40].

وقوله: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ}[30/47].

وقوله: {لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}

وقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[58/21]، وقوله: {نَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[40/51]، وقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}[9/14].

ونحو ذلك من الآيات وما في معناها من الأحاديث.

فإن النسبة بين التمسك بالدين والتقدم، كالنسبة بين الملزوم ولازمه. لأن التمسك بالدين ملزوم للتقدم، بمعنى أنه يلزم عليه التقدم، كما صرحت به الآيات المذكورة.

ومعلوم أن النسبة بين الملزوم ولازمه لا تعدو أحد أمرين: إما أن تكون المساواة أو الخصوص المطلق، لأن الملزوم لا يمكن أن يكون أعم من لازمه.

 وقد يجوز أن يكون مساوياً له أو خص منه، ولا يتعدى ذلك. ومثال ذلك: الإنسان مثلاً، فإنه ملزوم للبشرية الحيوانية، بمعنى أن الإنسان يلزم على كونه إنساناً أن يكون بشراً وأن يكون حيواناً، وأحد هذين اللازمين مساو له في الماصدق وهو البشر.

 والثاني أعم منه ما صدقاً وهو الحيوان، فالإنسان أخص منه خصوصاً مطلقاً كما هو معروف.

فانظر كيف خيلوا لهم أن الربط بين الملزوم ولازمه كالتنافي الذي بين النقيضين والضدين. وأطاعوهم في ذلك لسذاجتهم وجهلهم وعمى بصائرهم، فهم ما تقولوا على الدين الإسلامي ورموه بما هو منه بريء إلا لينفروا منه ضعاف العقول ممن ينتمي للإسلام ليمكنهم الاستيلاء عليهم، لأنهم لو عرفوا الدِّين حقاً واتبعوه لفعلوا بهم ما فعل أسلافهم بأسلافهم.

فالدين هو هو، وصلته بالله هي هي، ولكن المنتسبين إليه في جل أقطار الدنيا تنكروا له، ونظروا إليه بعين المقت والازدراء. فجعلهم الله أرقاء للكفرة الفجرة.

ولو راجعوا دينهم لرجع لهم عزهم ومجدهم، وقادوا جميع أهل الأرض، وهذا مما لا شك فيه {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ}[47/4].

من كلام العلامة الشيخ محمد أمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في كتابه “أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن”

إغلاق

تواصل معنا

إغلاق