تبيان المقال في اشتراط التتابع في صيام ست من شوال وتقديم القضاء عليها
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فقد روينا في صحيح مسلم عن أَبي أيوب – رضي الله عنه – : أنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: “مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أتْبَعَهُ سِتّاً مِنْ شَوَّالٍ ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ” .
وقال الإمام القرطبي رحمه الله في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم(10/ 18):
“ليس فيه دليل على أنها تكون متصلة بيوم الفطر ، بل لو أوقعها في وسط شوال ، أو آخره ، لصلح تناول هذا اللفظ له.
لأن “ثم” للتراخي ، وكل صوم يقع في شؤال فهو متبع لرمضان ، وإن كان هنالك مهلة.
وقد دل على صحة هذا قوله في حديث النسائي : “وستة بعد الفطر”.
ولذلك نقول :
إن الأجر المذكور حاصل لصائمها ؛ مجموعة أوقعها أو مفترقة ؛ لأن كل يوم بعشر مطلقًا ، والله تعالى أعلم .
انتهى كلام القرطبي رحمه الله:
وفي “الإنصاف” (3/ 243):
ظاهر قوله: “ومن صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر”، أن الأولى: متابعة الست إذ المتابعة ظاهرها التوالي وهو ظاهر كلام الخرقي وجماعة كثيرة من الأصحاب وصرح بعض الأصحاب بذلك وجزم به في المذهب ومسبوك الذهب.
والصحيح من المذهب: حصول فضيلتها بصومها متتابعة ومتفرقة ذكره كثير من الأصحاب منهم صاحب الهداية والمستوعب والمغني والشرح والمحرر والرعاية الصغرى والفائق وغيرهم وهو ظاهر كلامه في الخلاصة والتلخيص والوجيز والحاويين وغيرهم لإطلاقهم صومها.
وقال في الرعاية الكبرى وإن فرقها جاز وقدمه في الفروع وقال وهو ظاهر كلام الإمام أحمد في أول الشهر وآخره.
قال في اللطائف هذا قول أحمد واختاره الشيخ تقي الدين واستحب بعض الأصحاب التتابع وأن يكون عقيب العيد قال في الفروع وهذا أظهر ولعله مراد أحمد والأصحاب لما فيه من المسارعة إلى الخير وإن حصلت الفضيلة بغيره.
وذكر العلامة الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله في شرحه لبلوغ المرام:
قوله صلى الله عليه وسلم “ثُمَّ أتْبَعَهُ”: ليست متابعة ملازمة، بل لابد أن يفصل بين رمضان وشوال، وأقل شيء بيوم العيد، وإن زاد الفصل فلا مانع. كما ذكر ذلك.
وقال أيضا:
“وقد اتفق العلماء على أن تلك الست من شوال يصح صومها في العشر الأوائل من شوال، أو في العشر الوسطى، أو في العشر الأخيرة، أو يأخذ يومين من كل عشر سواء تابعها أو فرقها، المهم عند المالكية ألا تكون لاصقة برمضان مباشرة، لا يفصل بينها وبين رمضان إلا يوم العيد”.
قلت: بهذا يتبين أن صيام ست من شوال لا حرج في صيامها متتالية أم مفرقة، وإن كان الأفضل التتابع للمسارعة في الخير.
وقوله صلى الله عليه وسلم :“كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ”: لأن الحسنة بعشر أمثالها فرمضان بعشرة أشهر والستة بشهرين كما قال غير واحد من الأئمة.انظر شرح الزرقاني (2/ 271) وتحفة الأحوذي (3/ 388)
وأما هل يصح صوم الست من شوال لمن عليه قضاء لرمضان:
فنقول بأن الله تعالى قال: ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ).
ويقول الإمام القرطبي رحمه الله في ( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) :
وإن فرقه أجزأه، وبذلك قال مالك والشافعي. والدليل على صحة هذا قوله تعالى: “فعدة من أيام أخر” ولم يخص متفرقة من متتابعة، وإذا أتى بها متفرقة فقد صام عدة من أيام أخر، فوجب أن يجزيه”. ابن العربي: إنما وجب التتابع في الشهر لكونه معينا، وقد عدم التعيين في القضاء فجاز التفريق.
وقال:”لما قال تعالى: ( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) دل ذلك على وجوب القضاء من غير تعيين لزمان، لأن اللفظ مسترسل على الأزمان لا يختص ببعضها دون بعض. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان، الشغل من رسول الله، أو برسول الله صلى الله عليه وسلم. في رواية: وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا نص وزيادة بيان للآية”.
فظهر بذلك أن وقت القضاء موسع ولا يجب على الفور.
وأما حكم صيام التطوع قبل قضاء صوم رمضان فقد اختلف فيه فقهاء الإسلام وهاك إياه:
ذهب الحنفية إلى جواز التطوع بالصوم قبل قضاء رمضان من غير كراهة ، لكون القضاء لا يجب على الفور ، قال ابن عابدين : ولو كان الوجوب على الفور لكره ؛ لأنه يكون تأخيرا للواجب عن وقته الضيق .
وذهب المالكية والشافعية إلى الجواز مع الكراهة، لما يلزم من تأخير الواجب، قال الدسوقي: يكره التطوع بالصوم لمن عليه صوم واجب ، كالمنذور والقضاء والكفارة . سواء كان صوم التطوع الذي قدمه على الصوم الواجب غير مؤكد ، أو كان مؤكدا ، كعاشوراء وتاسع ذي الحجة على الراجح .
وذهب الحنابلة إلى حرمة التطوع بالصوم قبل قضاء رمضان ، وعدم صحة التطوع حينئذ ولو اتسع الوقت للقضاء ، ولا بد من أن يبدأ بالفرض حتى يقضيه ، وإن كان عليه نذر صامه بعد الفرض أيضا. انظر الموسوعة الفقهية الكويتية.
وحكى ابن المبرد في “مغني ذوي الأفهام” عن الإمام أحمد رواية في جواز التطوع بالنقل قبل القضاء .
أقول: والأصح في هذه الأقوال صحة صيام النافلة قبل قضاء صوم رمضان، وعليه فإن تأخير قضاء المرأة لقضاء صيام رمضان لا حرج فيه، فتصوم المرء ستا من شوال قبل قضاء الفريضة لأن القضاء للصيام موسع، ولا يؤاخذ المرء على تأخير قضائه، بينما صيام ستة من شوال قد تفوت مصلحته ويضيق وقته وخاصة لمن كثر عليه القضاء من رمضان كحال كثير من النساء.
يضاف إلى ذلك أن صيام المرأة التي عليها قضاء لرمضان ستا من شوال قبل صيامها للقضاء أرفق بها وبزوجها من صيام القضاء أولا ثم صيامها الست من شوال لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.
ويستأنس لهذا مما سبق من تأخير عائشة رضي الله تعالى القضاء إلى شعبان لانشغالها برسول الله صلى الله عليه وسلم ولمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح.
وأما الاستدلال ب” مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أتْبَعَهُ سِتّاً مِنْ شَوَّالٍ” فيقال إنه خرج مخرج الغالب لمن لا عذر له من سفر أو مرض ونحو ذلك، وأما من كان ذا عذر فله صيام ست من شوال وتأخير قضاء صيام الفريضة لان القضاء موسع من الله كما سبق، ولكن لا يتم الأجر لمن صام الست إلا بعد إتمامه لما عليه من قضاء لرمضان فيكون بذلك قد صام رمضان وستا من شوال.
مع أننا مع ترجيح صحة صيام النافلة قبل قضاء صوم رمضان، نقول إن تقديم الفرض وإن كان وقته موسعا أولى من تقديم المستحب ولكن لو قدم المستحب هنا جاز، والله أعلم.