جدول الأبرار المقتصدين

  • أ.د. عاصم القريوتي
  • 4773
نشر عبر الشبكات الإجتماعية

جدول الأبرار  المقتصدين

 

من كلام ابن القيم رحمه الله

 بقليل من التصرف

 

        وأما الأبرار المقتصدون، فقطعوا مراحل سفرهم بالاهتمام بإقامة أمر الله، وعقد القلب على ترك مخالفته ومعاصيه، فَهِمَهُهُم مصروفة إلى القيام بالأعمال الصالحة، واجتناب الأعمال القبيحة.

        فأول ما يستيقظ أحدهم من منامه يسبق إلى قلبه القيام إلى الوضوء والصلاة كما أمر الله.

فإذا أدى فرض وقته اشتغل بالتلاوة والأذكار إلى حين تطلع الشمس، فيركع الضحى.

        ثم ذهب إلى ما أقامه الله فيه من الأسباب.

        فإذا حضر فرض الظهر بادر إلى التطهر والسعي إلى الصف الأول من المسجد، فأدى فريضته كما أمر، مكملا لها بشرائطها، وأركانها، وسننها، وحقائقها الباطنة من الخشوع والمراقبة والحضور  بين يدي الرب.

فينصرف من الصلاة وقد أثرت في قلبه وبدنه وسائر أحواله آثارا تبدو على صفحاته ولسانه وجوارحه.

ويجد ثمرتها في قلبه من الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور وقلة التكالب والحرص على الدنيا وعاجلها، قد نهته صلاته عن الفحشاء والمنكر، وحببت إليه لقاء الله ونفرته من كل قاطع يقطعه عن الله، فهو مغموم مهموم كأنه في سجن حتى تحضر الصلاة، فإذا حضرت قام إلى نعيمه وسروره وقرة عينه وحياة قلبه، فهو لا تطيب له الحياة إلا بالصلاة.

        هذا وهم في ذلك كله، مراعون لحفظ السنن، لا يخلون منها بشيء ما أمكنهم.

فيقصدون من الوضوء أكمله.

ومن الوقت أوله.

ومن الصفوف أولها عن يمين الإمام أو خلف ظهره.

ويأتون بعد الفريضة بالأذكار المشروعة كالاستغفار ثلاثا.

وقول: “اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام”.

وقول: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد”، “لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون”.

ثم يسبحون ويحمدون ويكبرون تسعها وتسعين، ويختمون المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.

ومن أراد المزيد قرأ آية الكرسي والمعوذتين عقيب كل صلاة.

ثم يركعون السنة على أحسن الوجوه.

هذا دأبهم في كل فريضة.

فإذا كان قبل غروب الشمس، توافروا على أذكار المساء الواردة في السنة، نظير أذكار الصباح الواردة في أول النهار، لا يخلون بها بأبدا.

        فإذا جاء الليل، كانوا فيه على منازلهم من مواهب الرب سبحانه التي قسمها بين عباده.

        فإذا أخذوا مضاجعهم، أتوا بأذكار النوم والواردة في السنة، وهي كثيرة تبلغ نحوا من أربعين، فيأتون منها بما علموه وما يقدرون عليه من قراءة سورة الإخلاص والمعوذتين ثلاثا ثم يمسحون بها رؤوسهم ووجوههم وأجسادهم ثلاثا، ويقرؤون آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة، ويسبحون ثلاثا وثلاثين ويحمدون ثلاثا وثلاثين ويكبرون أربعا وثلاثين.

        ثم يقول أحدهم: “اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت “، وإن شاء قال: “باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فاغفر لها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين”.

        وإن شاء قال: “اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، ربي ورب كل شيء فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين واغنني من الفقر”.

        وبالجملة فلا يزال يذكر الله على فراشه حتى يغلبه النوم، وهو يذكر الله.

فهذا منامه عبادة وزيادة له في قربة من الله.

        فإذا استيقظ عاد إلى عادته الأولى.

        ومع هذا فهو قائم بحقوق العباد:

من عيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وإجابة الدعوة، والمعاونة لهم بالجاه والبدن والنفس والمال، وزيارتهم، وتفقدهم، وقائم بحقوق أهله وعياله، فهو متنقل في منازل العبودية كيف نقله فيها الأمر.

        فإذا وقع منه تفريط في حق من حقوق الله، بادر إلى الاعتذار، والتوبة والاستغفار، ومحوه ومداواته بعمل صالح يزيل أثره، فهذا وظيفته دائما.

        من “طريق الهجرتين وباب السعادتين”(ص: 205)

إغلاق

تواصل معنا

إغلاق