وقفات في مدرسة الصيام
الحمد لله الذي منّ علينا بفضله وعميم كرمه، وجعل لنا مواسم تزيدنا قربةً إليه، ونيلاً من نفحات رحمته، وحطاً لخطايانا، فسبحانك ربي ما أكرمك، وبعد:
فهذه وقفاتٌ سريعةٌ في مدرسة الصيام في شهر الخير شهر رمضان المبارك، أقدمها لإخواني المسلمين وأخواتي المسلمات، عسى الله أن ينفع بها كاتبها وقارئها:
الوقفة الأولى: رمضان مدرسة المتقين.
أخبر الله تعالى في محكم كتابه عن هذا الشهر بقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
وقوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ليس للشك والمعنى: أي إن الصوم وصلة إلى التقوى؛ لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات، وقيل المعنى: لعلكم تحذرون عن الشهوات، من الأكل والشرب والجماع، كما قال الإمام البغوي رحمه الله.
كما أن العرب استعملت “لعل” مجردة من الشك بمعنى لام كي. فالمعنى لتعقلوا ولتذكروا ولتتقوا.
والتقوى كلمةٌ جامعةٌ للخير، إذ حقيقتها أن يُطاع الله فلا يُعصى، وأن يُذكَر فلا يُنسى، وأن يُشكَر فلا يُكفَر.
الوقفة الثانية: رمضان مدرسة الإخلاص.
روى الشيخان البخاري ومسلم عن أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قال: « مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ».
والمراد بالإيمان: الاعتقاد بحقٍّ فرضيَّة صومه، وبالاحتساب: طلب الثواب من الله تعالى، ولأنَّ الصوم إنَّما يكون لأجل التَّقرُّب إلى الله، والنيَّةُ شرطٌ في وقوعه قربةً.
وفي الصِّيام يتجلَّى الإخلاص لله تعالى في العمل، ومراتبُ الإحسان في مراقبة الله بأنه يراه، إذْ يمتنع المرءُ عن الطعامِ والشرابِ، وما مُنِع منه لأجل الصيام كلّ ذلك لله عز وجل.
الوقفة الثالثة: رمضان شهر القرآن.
رمضان شهرٌ عظيمٌ، إذ هو شهر القرآن، وفيه أُنزِل، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)}.
فحريٌ بنا أن نكثر من قراءة القرآن، ولقد كان بعض السلف يتفرغ في رمضان للقرآن فقط، ويدع ما سواه من العلوم.
وعلينا أن لا نقتصر على التلاوة للقرآن دون التدبُّر، حتى لا ندخل في قوله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا).
وقال تعالى واصفًا المؤمنين: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [سورة الزمر: 23].
وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [سورة التوبة: 124].
الوقفة الرابعة: رمضان مدرسة تربوية.
لما كان اجتناب الزور والمحرمات في الصيام مما يجب أن يراعيه الصائم، كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ”، كان ذلك حافزًا له على اجتناب ما حرم الله بعد رمضان أيضًا، لأن ما حرمه الله من الزور والكذب وسائر المعاصي في رمضان، قد حرَّمها في كل ِّالشهور.
الوقفة الخامسة: رمضان مدرسة الصبر.
الصيام مدرسة عظيمة في تعليم الصبر، والتعود عليه، إذ في صبر الصائم الساعات الطويلة على أشياء قد لا يستطيع أن يصبر عليها كثيٌر من الناس في غير رمضان، وضبط النفس وكبح جماحها عن المحذورات والمحرمات، دليلٌ على أن العزيمة لها دور كبير بإذن الله في الكف عن المحرمات والمكروهات،فرمضان فرصة عظيمة يا أخي المسلم ويا أختي المسلمة للإقلاع عما اعتاده الإنسان مما حرمه الله أو كرهه.
الوقفة السادسة: رمضان مدرسة تربوية.
رمضان شهٌر لتربية الأبناء، وحثهم على الطاعات، وفي البخاري وغيره عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ:”مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيَصُمْ”، قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإِفْطَارِ.
الوقفة السابعة: رمضان شهر الجد والنشاط.
إذا نظرنا إلى التاريخ الإسلامي وجدنا في هذا الشهر المبارك كثيرًا من الفتوحات والانتصارات، لأن ذلك الجيل من الصحابة رضي الله عنهم قد حققوا توحيد الله الذي به تقوم الأمة وتحيى واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدق، فتحقق لها بذلك ما وعد الله به في قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
ختامًا: إن سبيل خلاص المؤمنين من واقعهم من ظلم ونكبات، إنما يكون بتوحيد الله عز وجل وباجتناب الشرك كبيره وصغيره، وبالسير وفقاَ لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذ: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها) كما قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله.
والحمد لله رب العالمين.